top of page
صورة الكاتبعبدالمجيد تمراز

صورة الكاتب المعذب أو مغالطات فان جوخ وحوار مع مانغويل حول سؤال : من أين أتت صورة الكاتب المزرية ؟

تاريخ التحديث: ٢٩ أكتوبر ٢٠١٨


استمتع بتعليم ابنتي دروس اللغة، وعندما أحفزها أثناء تلقينها بعض الكلمات، تعلو أكتافها وتشعر بالقوة، ذلك أنها تعرف أنني كاتب، وباعتقادها أن الكتّاب سحرة يملكون ناصية اللغة، ولاعبي خفة يثيرون بالكلمات إعجاب الجمهور، وفي كل مرة أخبرها بإعادة كتابة بعض الكلمات لعدة مرات، تهمس لي بأنها تريد أن تصبح كاتبة مثلي، أو تقولها بطريقتها العذرية والعفوية :

" بابا أبا أصير كَتّابة زيك ".


هناك نظرتين مختلفتين ومتضادتين في نفس الوقت عن الكتابة والكاتب في عالمنا، إحداها هي صورة تبرز الكاتب بشكل بطولي، حيث أن حياته مليئة بالأفراح بسبب الكتابة، أو على الأقل أن فعل الكتابة بالنسبة له قمة المتعة والسعادة، يعيش حياة طبيعية ويحب كل أشكال الوجود بكرم وصدق ( بالغت قليلاً )، باختصار يرى أن السعادة مصاحبة لفعل الكتابة، في المقابل هناك صورة بشعة للكاتب تصوره بأنه يرى العالم بنظرة عبثية أو عدمية أحيانا، ويعتقد أن فعل الكتابة نابع من الألم، حيث أنها تمرينٌ على تمزيق اللحم لإيجاد الكلمات المناسبة من بين الأوردة ( بالغت أيضاً )، باختصار يرى أن النكد والألم مصاحب لفعل الكتابة.


الآن أي النظرتين سأقدم لابنتي عندما تكبر قليلا وتقرر الخوض في عالم الكتابة ؟

هذا التساؤل هو السبب الأول الذي دفعني للبحث والكتابة، والسبب الثاني هو افتراضي بأن صورة الكاتب المعذب نمطية ومنتشرة أكثر في مجتمعنا، والسبب الثالث إيماني بأن هذه الصورة ليست صحيحة منطقيا، وأنها لا تساعد على انتشار الكتّاب في مجتمعاتنا العربية، والتي تعاني من النكد والهم في حياتها فضلا عن الكتابة، والسبب الرابع أن هذه النظرة أدت إلى رؤية تملؤها الشفقة عند تقدير الفن والفنان.



مغالطات فان جوخ

باختصار كئيب يشبه حياة الفنان الذي نحن بصدد ذكره، يعتبر فان جوخ من أشهر الرسامين الهولنديين في العالم، عاش حياة كئيبة وسوداوية وفقيرة، لم يقدره المجتمع ولم يعتني به أحد بشكل جيد، عاش الكثير من المآسي الشخصية والإبداعية، أضطر لقطع أذنه في يوم من الأيام بسبب ترك حبيبته له أو بسبب أنه كان يسمع هلوسات، قتل نفسه برصاصة في صدره، وبعد موته اشتهرت أعماله بشكل كبير وأصبح مثالا للفنان المعذب الذي يلقى التقدير بعد موته.


في كتاب التفكير من الألف للياء لنيجل واربورتن Thinking from A to Z By Nigel Warburton ، يسوق لنا المؤلف مثالاً على مغالطة منتشرة في الأوساط الإبداعية باسم هذا الفنان الغلبان وهي كالتالي :

" كان فان جوخ فقيرا وتعيسا في حياته ولكنه في آخر المطاف اعتبر من أعظم الفنانين، أنا فقير وتعيس في حياتي لذلك لابد أن أقدّر كفنان عظيم عاجلاً أم آجلاً "

تشكل هذه الفكرة جزء أساسي من كل تبرير يتبني صورة الكاتب المعذب، حيث أن رائحة فحم فان جوخ تفوح عند أحاديث آلام الكتابة وعذاباتها، وعند التعمق في طبقات هذه الصورة سنجد أن هذه المعادلة قابعة دائمة بالأسفل، فضلا عن دواعي التسويق لبطولة الكاتب حيث أنه مكافح، أو أنه ببساطة تمت برمجت أمزجة المجتمع لتكرم الكاتب المعذب وتقبل عليه أكثر من غيره، أنا لا أنكر تعرض الإنسان لعذابات في حياته، بل أؤمن أن الحياة رحلة من المطبات والحفر، ولكن أن يتم تسويق هذه الصورة وارتباطها بقيمة الكتابة نفسها فهو تصور خاطئ وفي أقصى الحالات تطرفا إدمان مازوشي !


المغالطة الأولى : التماثل الزائف ( التفكير التشبيهي )

نستخدم التشبيه في حياتنا من أجل إيصال فكرة معينة، إنها طريقة سهلة وجميلة للتبسيط والتوضيح، ولكنها أيضا خطيرة عند استخدامها بشكل خاطئ، عندما نقارن أمرين من أجل أن نصل إلى نتيجة منطقية معينة، علينا الانتباه للفوارق الدقيقة التي بين الموضوعين، وأن ننتبه بالشأن المعني الذي تريد الحجة توضيحه، فمثلاً عندما يشبه بعض الفنانين حياتهم بفان جوخ من حيث معيار الفقر والتعاسة والتقدير المتأخر، فإن هذا لا يعني ببساطة أنهم فان جوخ من حيث الموهبة أو القدرة على الرسم، فهذا أقرب بالتفكير الرغبوي أو التفكير بالتمني، حيث أننا نريد تبرير فشلنا أو معاناتنا عبر أمنية مفادها أننا سنبتكر في آخر المطاف أو سيعرف العالم من نحن.


المغالطة الثانية : إثبات التالي

هذه المغالطة شائعة جدا بيننا، لأنها خفية أحيانا ودقيقة، إذا وضعنا عبارة شرطية معينة فإنه لابد من ذكر ما يلزم عن هذا الشرط، أي ما يكون عليه الحال إذا تحقق الشرط، أما في حال المغالطة فإننا ننتقل بالاتجاه العكسي، من إثبات التالي إلى إثبات المقدم.

مثال : إذا كنت ناجحاً في حياتك فسوف تفتح حساب في السوشيال ميديا وتنشر صورك.

المشكلة أن هناك افتراض مضمر مفاده أن المقطع الأول فقط هو الذي يلزم عنه النتيجة.

ويتضح ذلك في الشرح :

أنت ترغب في فتح حساب بالسوشيال ميديا ونشر صورك ..

إذن أنت ناجح في حياتك ..

الآن بالنسبة لصورة الفنان أو الكاتب المعذب تظهر لنا المغالطة بهذا الشكل :

إذا ترغب في أن يعرفك التاريخ وتصبح فنان عظيما فسوف تعيش حياة فقيرة ومليئة بالتعاسة.

الإشكال أنه قد تكون هناك العديد من الأسباب الصحيحة التي أدت لفان جوخ أن يصبح فنان عظيما، ولكن عرض الحجة بهذا الشكل يقنعنا بطريقة خفية أنه السبب الوحيد الذي جعل فان جوخ شهيراً.


المغالطة الثالثة : الارتباط والسببية

تدفعنا المغالطة الثانية للانتقال إلى هذه المغالطة المرتبطة بها، وهي الخلط بين الارتباط والسببية، يقول دكتور عادل مصطفى :

" تطرد الأحداث أمام الإدراك البشري في أنماط معينة من التصاحب والتعاقب والتجاور في المكان والزمان، فيستل من ذلك علاقة ارتباط تثير فيه عادة التوقع وقد تترسخ فيه عادة التوقع فتحول علاقة الارتباط إلى سببية "

لذلك إن إثبات وجود علاقة سببية بين نجاح فان جوخ وبين تعاسته وبؤسه يستلزم أكثر من مجرد الارتباط : يستلزم الاطراد الدائم، والارتباط الدائم بين نمطي الحدثين، إيجابا أو سلبا، وعدم وجود أي أمثلة مضادة، لذلك وكما يقول دكتورعادل مصطفى مجرد المعية قد يكون سببه :

· المصادفة البحتة

· وجود سبب ثالث أعم من وراء كلا الحدثين

( مثلا سبب اجتماعي في ذلك الوقت )

· أو قد يكون الاتجاه الحقيقي للعلاقة السببية معكوس.

( أي قد يكون سبب توجهه للفن هو فقره وبؤسه في الأساس )



لمحة تاريخية عن أصل الفكرة وحوار مع مانغويل حول صورة الكاتب المعذب :

( حوار تخيلي مع إعادة ترتيب الاقتباسات )


صدر كتاب جديد لأحد أقرب المؤلفين إلى قلبي : ألبرتو مانغويل، اسم الكتاب ( ذاكرة القراءة )، وهو عبارة عن نص بديع مليئ بالعاطفة والعشق يتحدث فيه حول توديع مكتبته، ويتخلل هذه الوداعية عدة تأملات، واحدة منها تتحدث عن الكتابة وأصل صورة الكاتب البائس :


ما هو أصل صورة الكاتب المعذب ؟

" خير للفنان في المعتقد الشعبي أن يكون سوداويا، حزينا، كئيبا، تعيسا، يقولون أن البؤس ينتج فنا جيداً "
" ينطوي هذا المعتقد على افتراضين يفوقان السوداوية في خطورتهما، أولهما أن ثمة حالة وجودية لا نكون بؤساء فيها، لا نرضى بالقصة التي تقول إننا كنا سعداء ذات مرة في جنة عدن، وعلينا الآن أن نكسب خبزنا بعرق جبيننا، فتطوقنا الإعلانات التي تقول لنا إننا قادرون على بلوغ عدن مرة أخرى بمعونة من بطاقة ائتمانية بلاتينية، .. بطريقة أو بأخرى يستدعي الافتراض الثاني إلقاء اللوم على الفن لأنه يجعلنا تعساء "

من أين أتت هذه الصورة ؟

" تعود أصول الفكرة التي مؤداها أن البؤس موجود في صميم العملية الابداعية إلى شذرة منسوبة ألى أرسطو أو مدرسة أرسطو بالأحرى، وقد جرى تقليبها على وجوه شتى عبر الربط بينها وبين أسباب جسيمة وميول نفسانية وخيارات روحانية، أو بصفتها رد فعل على أجواء ثقافية أو طبيعية معينة "
" ظهر في اليونان وروما، بينة فينة وأخرى، كتاب وحيدون ومعدمون، كالساخر ديوجين في برميله، أو الشاعر أوفيد منفيا في ضواحي توميس، لكن هؤلاء حالات خاصة، بائسون نتيجة لظروف خاصة، لأنها اختاروا العيش مجردين من جميع أسباب الرفاهية المتوافرة، مثل ديوجين، أو لأنهم عوقبوا جراء قول الحقيقة مثل أوفيد..
"فضيلة الفقر جوهرية هنا، وقد تشاطر المسيحين الأوائل هذه الفكرة مع الرواقيين الإغريق. ففي المخيلة الشعبية، أتاح الفقر وعذاب الجسد التواصل مع الروح القدس أو ربة الإلهام.
من العبث الافتراض بالقول إن هناك مئات وآلافا من الكتاب الذين لا ينصاعون لهذه المعايير المجحفة.
" على غرار فيض من الابداعات الأدبية التي تبدأ كلمعات عبقرية وتنتهي ككليشيهات مضجرة، كانت صورة الكاتب المحكوم بالعلية ابتكار أدبيا محضا، وجاءت دون شك لتصف كاتبا معينا في لحظة معينة، ما يحيرنا اليوم. قد يتندر الكتاب على هذه الصورة أوقد يضحكون منها، لكن الجمهور ( هذا المخلوق الخيالي الهائل ) يراها الحقيقة"

لماذا تستساغ هذه الصورة كثيرا ؟

" ثمة كتاب باتو مقتنعين أن هذه الصورة هي الحقيقة، فارتضوا دور المنبوذ الفقير من دون جدال، ثمة شئ ممتع بطريقة مازوشية في صراع المرء من أجل فنه طوال الحياة "

ما هو رأيك حول هذه الصورة ؟

" القول الأصدق هو أن الفنانين يعملون على أكمل وجه وهم سعداء، لم يكن شوبنهاور يتخفف من يأسه الوجودي وألمه الجسدي إلا لحظة الكتابة، .. الأسطورة التي مفادها أن الفنان بحاجة إلى العذاب من أجل الإبداع، إنما تروي القصة بالطريقة المعاكسة والخطأ، لا ريب أن العذاب قدر الإنسان، والقصائد تصف ذلك العذاب، ولكن الأغنية تأتي فيما بعد لا في حضيض البؤس، وإنما عند استرجاع ذلك البؤس، والارتياح منه توفره الكتابة "
" إن الكتاب الذي كتب ( على سرير في علية ) أو الذي ( بدأ واستمر وانتهي تحت وطأة علاج طويل بالملينات وحاجة ماسة إلى المال ) كما صرح جوناثان سويفت، إنما هو حقيقة لا تقول الكثير عن جودة الكتاب وأهميته "
" لا يليق بالعبقري الخلاق أن يكون مريضا، ويكون منبوذا، ويكون فقيرا، ذلك لا يلائم إلا الفكرة التي يروق لرعاة الفن الموسرين أسقاطها على الفنان تسويغا لبخلهم "



اكتب بمتعة وارتدي زوجا نظيفا من الأحذية

عندما أنتهي من كتابة فقرة أو مقال، أشعر بسعادة غريبة تجعلني مستعد لمجابهة العالم، فأقف حينها من على مكتبي بشكل تلقائي، وأقرر الذهاب لفعل أي شئ آخر، وأتوهم لحظتها بأني قد حصلت على نصيبي من السعادة، والآن أصبحت مهمتي مقتصرة على نشرها لمن حولي، وفي مرات أخرى، أشعر وكأني أخذت جرعتي اليوم من التطعيمات اللازمة لمواجهة آلام وغباء العالم، إنه إحساس هذه الجملة : تبا يمكنني فعل أي شئ الآن، أخرج حينها من مكتبي لأدخن سجائري في الفناء، أو أقرر الخروج مع أصدقائي ، وفي كلا الحالتين لابد لي أن أرتدي زوجاً نظيفا من الأحذية!.

" إن ساعة من الكتابة هي ساعة منعشة، إنها تجعلني أقف على قدمي، أركض في دوائر، وأصرخ طالبا زوجا نظيفا من الأحذية " راي برادبيري



 

روابط مفيدة :

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AA%D9%81%D9%83%D9%8A%D8%B1_%D8%B1%D8%BA%D8%A8%D9%88%D9%8A

https://www.youtube.com/watch?v=Zoh8jBEkr-g&index=7&list=PL2byCY7MTJXtrFVGo72gilVsaDIn2KbEm

https://www.vice.com/en_uk/article/yvjzqw/why-the-character-of-the-troubled-artist-is-bullshit-323

https://medium.com/s/story/the-cruel-myth-of-the-suffering-artist-dfe6dbf8c162

https://www.theguardian.com/books/booksblog/2012/apr/02/myth-of-the-suffering-artist





Comments


Commenting has been turned off.

اقرأ كتبي 

غلاف حتى لا تتحول copy.jpg
07 copy.jpg
حكايات مشلح copy.jpg
_AS_3157.jpg

 كاتب وصانع محتوى إبداعي

  اقرأ المزيد

اشترك لتصلك شحنة

عالية من الإلهام

  • Black Twitter Icon
  • Black Instagram Icon
  • Black Facebook Icon
  • Black LinkedIn Icon
front.jpg
غلاف بوصلة القراءة.jpg
غلاف رمضاني.jpg
bottom of page